التجويع في غزة- سلاح إبادة ومأساة إنسانية متفاقمة

المؤلف: ساري عرابي08.23.2025
التجويع في غزة- سلاح إبادة ومأساة إنسانية متفاقمة

سياسة التجويع: أداة محورية في مشروع الإبادة

إنّ التجويع الذي يكابده سكان غزة في هذه اللحظات المأساوية من الإبادة الجماعية المفروضة عليهم ليس مجرد حادث عابر، بل هو جزء لا يتجزأ من خطة إبادة مُحكمة، تهدف إلى إذلالهم وفتح الطريق أمام اقتلاعهم من جذورهم في أرضهم.

فخلال اجتماعات مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية، وفي خضم مناقشة الخطط الإسرائيلية لتصعيد وتيرة حرب الإبادة والوصول إلى تحقيق الأهداف الإستراتيجية المنشودة، وبينما كانت أفكار مثل الاحتلال الشامل أو ما يسمى بممرات العبور الإنساني تثير خلافًا بين المستويين السياسي والعسكري، تقدّم نتنياهو باقتراح لتشديد الحصار الخانق على قطاع غزة، معتمدًا على خبرته الطويلة في المجالين المهني والسياسي، مؤكدًا أن هذا الإجراء وحده كفيل بإخضاع حركة حماس.

يثير حديث نتنياهو عن تشديد الحصار، في سياق نقاش داخلي، دهشة واستغرابًا، إذ أن الحصار مطبق بالفعل على قطاع غزة منذ زمن طويل، مما يعني أن ما كان يرمي إليه هو المنع التام لوصول الغذاء الشحيح والمحدد، والذي كان يصل بصورة مقننة طوال أشهر الحرب، إلى أهالي غزة.

وعليه، يمكن التأكيد الآن على أن التجويع، الذي اتُخذ سلاحًا فتاكًا في حرب الإبادة منذ يومها الأول، يتطور ليصبح أكثر شمولًا وتطبيقًا، بحيث لم يعد سكان غزة يجدون حتى بقايا علف الحيوانات لطحنها وخبزها كما كانوا يفعلون في الأشهر الأولى من سياسة التجويع، وذلك بهدف دفع الإبادة نحو ذروتها وتحقيق أهدافها كاملة.

بالإضافة إلى سياسات التهجير القسري والقتل المتعمد والقصف المتواصل، تتوسع الإبادة المسلحة في الوقت ذاته نحو المناطق الوسطى، وتشق طريقًا فاصلًا جديدًا يعزل دير البلح عن منطقة المواصي، في حين يراوغ المفاوض الإسرائيلي بخرائط انسحاب وهمية، ليُبقي المجال مفتوحًا لإقامة ما يسمونه بمناطق العبور الإنساني، والتي ما هي إلا معسكرات اعتقال نازية تمثل المدخل لعملية التهجير القسري (الذي يطلقون عليه تهجيرًا طوعيًا)، وتعمل على تقسيم الفلسطينيين على أساس الانتماء السياسي، بهدف الانفراد بالعناصر التي تنتمي أو تؤيد فصائل المقاومة وعوائلهم وأسرهم، حتى لو لم يشاركوا في العمل العسكري لهذه الفصائل.

وفي هذه الأثناء، تواصل مراكز توزيع المساعدات، في إطار ما يسمى "مؤسسة غزة الإنسانية"، تنفيذ سياسة العزل الاجتماعي لسكان غزة، وتحويل الطعام إلى أداة للقتل، إذ تجعل من طالبي المساعدة فريسة سهلة، بهدف بث المزيد من الرعب والفزع وتعزيز دوافع النزوح من غزة في اللحظة المناسبة، وزيادة حالة الاستياء الاجتماعي تجاه المقاومة.

ولا يقل أهمية عن ذلك هدف توفير الغطاء الدعائي والقانوني لاستمرار الحرب والتجويع، من خلال الادعاء بالسماح بوصول المساعدات عبر هذه المؤسسة، ولا ينفصل عن هذه السياسة تسليح ميليشيات محلية مرتبطة بأجندة الاحتلال، يوفر لها جيش الاحتلال الملاذات الآمنة، ويسعى من خلالها إلى تعميق الانقسام في المجتمع الغزي، ومحاصرة المقاومة، وتنويع خيارات الإستراتيجية الاستعمارية الإسرائيلية تجاه قطاع غزة.

تستفيد سياسة التجويع من ظرف موضوعي يسمح لها بالتحقق والاستمرار والتوسع والانتشار، وذلك أولًا بسبب المشاركة المعلنة للولايات المتحدة في هذه السياسة، من خلال مؤسسة غزة الإنسانية، والتي انطلقت بإعلان من الولايات المتحدة الأميركية عن إعداد نظام جديد لتقديم المساعدات للفلسطينيين في غزة عبر شركات خاصة، وذلك في بداية مايو/أيار من هذا العام، ليقود هذه المؤسسة لاحقًا جوني مور، وهو قس أميركي من المسيحيين الإنجيليين، وقد عمل سابقًا مستشارًا إنجيليًّا في البيت الأبيض أثناء الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب.

بهذه الطريقة، تساهم الولايات المتحدة بشكل مباشر في سياسة التجويع، وهو ما يدعو إلى تجاهل الدعايات التي تتحدث عن وجود خلافات بين البيت الأبيض وحكومة بنيامين نتنياهو بشأن سياسات الإبادة في قطاع غزة.

ولا يبتعد الأوروبيون عن توفير الغطاء لسياسات التجويع، سواء من خلال اتخاذ خطوات متثاقلة تجاه معاقبة إسرائيل، أو من خلال إطلاق الدعايات التي تمنح سياسة التجويع المزيد من الوقت للمضي قدمًا.

فقد أعلنت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس في 10 يوليو/تموز، عن توصل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق مع إسرائيل "لتحسين الوضع الإنساني في قطاع غزة، بما يشمل زيادة عدد شاحنات المساعدات وفتح المعابر وإعادة فتح طرق المساعدات"، إلا أن الذي حدث بعد ذلك كان عكس ذلك تمامًا، إذ جرى تعزيز سياسات التجويع، مما أدى إلى مجاعة غير مسبوقة تفضي إلى الموت المباشر.

وذلك في حين لم يكن للبيانات الغربية أي تأثير في تغيير السياسات الإسرائيلية، بما في ذلك البيان الأخير، الصادر 21 يوليو/تموز، عن 25 دولة من بينها بريطانيا وأستراليا وفرنسا وإيطاليا واليابان وكندا وعدد من الدول الأوروبية، والذي طالب بإنهاء الحرب على غزة.

وأكد البيان أن "نموذج الحكومة الإسرائيلية في إيصال المساعدات خطير، ويغذي عدم الاستقرار، ويحرم سكان غزة من الكرامة الإنسانية"، وأن "رفض الحكومة الإسرائيلية تقديم المساعدات الإنسانية الأساسية للسكان المدنيين أمر غير مقبول".

وقد استمرت بيانات عدد من الدول الأوروبية بهذا المنوال طوال أشهر الحرب، ولا يختلف من حيث النتائج إعلان بريطانيا إلى جانب كندا وأستراليا ونيوزيلندا والنرويج في 10 يونيو/حزيران الماضي، عن فرض عقوبات على وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بسبب تصريحات "متطرفة وغير إنسانية" بشأن الوضع في قطاع غزة، بحسب ما جاء في بيان مشترك لوزراء خارجية هذه الدول، وذلك لأن سياسة التجويع هي قرار اتخذته حكومة بنيامين نتنياهو، ويشرف على تنفيذه جيش الاحتلال الإسرائيلي، مما يجعل بيانات وقرارات من هذا النوع أقرب إلى تسجيل موقف أخلاقي لأغراض دعائية وسياسية تؤدي في النتيجة إلى استمرار سياسة التجويع في إطار الإبادة الشاملة.

وفي السياق نفسه، يجب الإشارة إلى أن القضية المرفوعة إلى محكمة العدل الدولية، بخصوص اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، والقرارات التي صدرت عن هذه المحكمة، لم تجد أي صدى في الممارسة الإبادية الإسرائيلية، وهي الممارسة التي ظلت بدورها بمنأى عن العقاب، مما يعني قصور النظام الدولي برمته، بما في ذلك الجانب العدلي والقانوني منه، وهو ما يدفع ثمنه اليوم أهالي غزة على هذا النحو الرهيب، كما دفعه الفلسطينيون دائمًا.

أما الشرط الموضوعي الأهم الذي يدفع الإبادة نحو انتهاج التجويع المباشر والصريح، فهو غياب الإرادة الإقليمية، في المجالين العربي والإسلامي، لمواجهة الهيمنة الإسرائيلية المطلقة، والتي تتجاوز حيز قطاع غزة إلى عدوان مباشر على لبنان وسوريا، هذا بالإضافة إلى تعزيز سياسات تحويل الضفة الغربية إلى بيئة طاردة لسكانها.

وهو ما يعني أن السماح لإسرائيل بإطالة أمد إبادتها للفلسطينيين في غزة طوال هذه المدة، قد حول قطاع غزة إلى قاعدة لإعلان إسرائيل نفسها قوة شبه إمبراطورية في المنطقة، إلا أن الإبادة المستمرة منذ أكثر من 21 شهرًا لم تدفع القوى الإقليمية، وتحديدًا الدول العربية المحيطة بفلسطين ودول الخليج وتركيا، إلى التحرك الفعلي، كما أن الانتقال المريع إلى التجويع الرهيب لم يظهر أيًا منها في صورة المسارع لتقديم العون، ولا التغول الإسرائيلي المتجاوز لحدود فلسطين المحتلة نحو لبنان وسوريا قد دفعها إلى التحرك على أساس سياسة شاملة تنظر إلى الخطر الإسرائيلي بما يتجاوز الرؤى الضيقة والقاصرة للدول والأنظمة الإقليمية.

كيف يمكن إيقاف التجويع؟

عند الحديث عن الدول العربية والإسلامية، يجب التذكير بقرارات القمة العربية/الإسلامية المشتركة التي عُقدت في الرياض، والتي دعا بيانها الختامي، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إلى "إدخال المساعدات إلى القطاع بشكل فوري ومستدام وكاف"، ثم القمة التي تلتها بعد عام في الرياض كذلك، والتي أكدت على قرارات القمة السابقة، وهو ما يستدعي محاسبة جميع الدول العربية والإسلامية عن السبب الذي حال دون تنفيذ القرارات التي أعلنت عنها بشكل مشترك في قمم جامعة لها.

هل كانت الدول العربية والإسلامية تعلن عن قرارات عاجزة عن تنفيذها؟ أم كانت بدورها تذر الرماد في العيون لتسجيل مواقف خطابية لا تأثير لها على أرض الواقع؟

لقد أصبح من نافلة القول إن أكثر ما يمنح سياسة الإبادة والتجويع أسباب الاستمرار هو الموقف العربي السلبي، بصرف النظر عن أسباب هذا السلبية، وبغض النظر عن كل ما يمكن أن يقال عن عدم تأثر العلاقات التطبيعية واتفاقات السلام بالإبادة القائمة، وعن ترويج الدعاية المضادة للمقاومة الفلسطينية، وعن إغلاق المجال العام أمام الجماهير والشعوب العربية لمنعها من القيام بأي فعل ضاغط، أو على الأقل يؤكد الانحياز المعنوي للفلسطينيين الذين يتعرضون للإبادة.

يبقى القول في هذه الحالة إن القضية ليست في توفير المساعدات، فلو فُتح المجال العربي والإسلامي للتبرعات لكانت أفقر الشعوب العربية قد اقتطعت من قوت أطفالها وأرسلته إلى أهالي غزة، ولكن المشكلة تكمن أولًا في إدخال هذه المساعدات، وثانيًا في العمل على وقف الإبادة، وثالثًا في توفير الدعم للمقاوم الفلسطيني الذي يعاني الحصار والخذلان والتشويه وكشف الظهر، فبغض النظر عن الموقف من هذه المقاومة بسبب أدواتها النضالية أو مرجعيتها الفكرية ومشروعها السياسي، فإن السماح بإبادة أهالي غزة قد تحول إلى إبادة معنوية وسياسية للمجال العربي بأكمله، بسبب غلو إسرائيل في فرض هيمنتها على هذا المجال.

إن الحل في هذه الحالة هو حل عربي، خاصة مع تكدس المساعدات على الجانب المصري من الحدود مع قطاع غزة، وذلك من خلال فرض حلول عربية لتنفيذ القرارات المتخذة عربيًا وإسلاميًا، وإسرائيل لن تجازف بعلاقاتها مع عدد من الدول العربية، ولن تُعلن الحرب على تحالف عربي وإسلامي يُعلن عن نفسه بهدف إدخال المساعدات بالقوة.

كما يمكن للحكومات العربية أن تناور بشعوبها وأن تفتح المجال العام لهذه الشعوب للتعبير عن غضبها تجاه سياسة الإبادة والتجويع، وعن تعاطفها مع الفلسطينيين، وهو أمر قد يساعد هذه الحكومات في توسيع فسحة حركتها وإقناع الولايات المتحدة بضرورة إنهاء حالة التجويع القائمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة